في خضم المشهد المعقّد في قطاع غزة، تواصل مصر تحرّكاتها الدبلوماسية المكثفة، سعيًا لتثبيت وقف إطلاق النار، بينما تستمر الاجتماعات الثلاثية مع قطر وإسرائيل، بحثًا عن مخرج إنساني وسط خلافات سياسية وعسكرية لا تزال قائمة.
مفاوضات دقيقة لإنجاح هدنة غزة
تشهد العاصمة المصرية القاهرة اجتماعات متواصلة تجمع ممثلين عن مصر وقطر وإسرائيل، وتهدف إلى بلورة تفاهم مشترك حول آليات تنفيذ وقف إطلاق النار في غزة. ورغم أن الجانب الإنساني يتصدر المشهد، فإن الخلافات بشأن الترتيبات الأمنية على الأرض لا تزال تُلقي بظلالها على مسار التقدم.
في صلب هذه الاجتماعات، تُطرح قضايا أساسية مثل إدخال المساعدات الغذائية والطبية إلى القطاع، وتأمين خروج المرضى والمصابين، وضمان عودة العالقين إلى منازلهم. وترى مصر في هذا الجانب بوابة أساسية لبناء الثقة، وتمهيدًا لتسويات أوسع تُنهي حالة التصعيد المستمرة منذ شهور.
خريطة انتشار جديدة للقوات الإسرائيلية
مقترح إسرائيلي لخفض التوتر
بالتوازي مع الجهود الإنسانية، قدّمت إسرائيل ما يُعرف بـ”خريطة انتشار ثالثة”، تتضمن مقترحات جديدة لسحب قواتها من مناطق محددة داخل قطاع غزة، خلال فترة وقف إطلاق النار المقترحة، والتي قد تمتد لستين يومًا. وبموجب الخطة، سيتم تقليص الوجود العسكري الإسرائيلي إلى نطاق ضيّق بمحاذاة الحدود الجنوبية، ضمن منطقة عازلة لا تتجاوز كيلومترين.
هذه المرونة النسبية في الموقف الإسرائيلي تهدف -وفق مصادر مطلعة– إلى تسهيل المفاوضات وفتح المجال أمام تقدم في المسار السياسي، لكنها لا تزال بعيدة عن تلبية الشروط التي تطالب بها حركة حماس، والتي تعتبر أن أي هدنة لا تشمل انسحابًا كاملًا من مناطق التمركز الحالية لن تكون ذات جدوى.
نقطة الخلاف: رفح والحدود الجنوبية
من بين أعقد النقاط المطروحة على طاولة الحوار، مسألة الوجود العسكري الإسرائيلي قرب مدينة رفح، وبشكل خاص في المناطق الممتدة بين معبري موراغ وفيلادلفيا. ففي الوقت الذي تقترح فيه تل أبيب الإبقاء على حضور محدود في تلك المنطقة، تصر حماس على الانسحاب الكامل إلى المواقع التي كانت تسيطر عليها إسرائيل قبل مارس الماضي.
جدل حول الممرات الاستراتيجية
تُشكّل الممرات الحدودية جنوب غزة عقدة تفاوضية إضافية، لا سيما أن بعضها يفصل بين مناطق حساسة، مثل خان يونس ورفح. وتعتبر حركة حماس أن استمرار السيطرة الإسرائيلية على هذه الممرات يُبقي القطاع في حالة حصار، ويُفشل أي جهود لتطبيق تهدئة حقيقية على الأرض.
البُعد الإنساني في قلب المبادرة
رغم التباينات الحادة، يبرز الملف الإنساني كعنصر توافق نسبي بين الأطراف. تسعى القاهرة، بالتنسيق مع الدوحة، لتأمين دخول مساعدات كافية إلى داخل غزة، تشمل الأغذية والأدوية والمعدات الطبية، مع منح الأولوية لحالات الإجلاء الطبي للمرضى والجرحى.
وفي هذا السياق، تُبدي إسرائيل مرونة أكبر مقارنة بالملفات الأمنية، إذ وافقت مبدئيًا على توسيع نقاط العبور وزيادة عدد الشاحنات المسموح بدخولها يوميًا، بما يُسهم في التخفيف من معاناة السكان، ولو جزئيًا، خلال الفترة التجريبية للهدنة.
مصر على خط التوازن الدقيق
تمثل مصر في هذا الملف دور الوسيط الأساسي، وتحاول أن تحافظ على توازن دقيق بين متطلبات الأمن القومي المصري، ومراعاة المصالح الإنسانية في قطاع غزة، بالإضافة إلى تطمينات الجانب الإسرائيلي من جهة، وتلبية المطالب الفلسطينية من جهة أخرى.
القاهرة تبذل جهودًا استثنائية لتقريب وجهات النظر، وتذليل العقبات التي تعرقل الاتفاق. ورغم حساسية الموقف، تُصر مصر على أن النجاح في وقف إطلاق النار مرتبط أولًا بترتيبات إنسانية حقيقية، ثم خطوات سياسية لاحقة يُمكن البناء عليها نحو تهدئة طويلة الأمد.
الدوحة شريك أساسي في الوساطة
تلعب قطر دورًا فعّالًا إلى جانب مصر في تيسير المباحثات، من خلال التنسيق المباشر مع قيادات حركة حماس، وتقديم مقترحات عملية لتجاوز الخلافات، لا سيما ما يتعلق بتوزيع المساعدات داخل القطاع، وضمان عدم استخدامها سياسيًا من أي طرف.
التحرك القطري يأتي في إطار جهود أوسع تُبذل من أطراف إقليمية ودولية، ترى في استقرار غزة مدخلًا ضروريًا لتحقيق هدوء نسبي في المنطقة، ومنع تمدّد دائرة العنف إلى جبهات أخرى أكثر تعقيدًا.
آفاق الهدنة… مشروطة بالاتفاق الميداني
بينما تواصل الأطراف لقاءاتها في القاهرة، تظل نتائج الاجتماعات رهينة بحسم الملفات الأمنية على الأرض، خصوصًا في ظل رفض الفصائل الفلسطينية لأي “هدنة منقوصة” لا تُلغي التواجد العسكري الإسرائيلي من مناطق الجنوب.
من جانبها، تضع إسرائيل شروطًا ترتبط بما تسميه “ضمان عدم عودة التهديدات الأمنية” بعد انسحاب قواتها، وهو ما يجعل الوصول إلى نقطة توازن نهائية أمرًا بالغ الصعوبة، رغم التقارب النسبي في بعض النقاط.
ختام: وساطة مصر لا تزال الأمل الأخير
في ظل انسداد المسارات السياسية المباشرة، تبقى الوساطة المصرية الأمل الأكثر واقعية لتحقيق اختراق في ملف غزة. ومع أن الطريق لا يزال مليئًا بالتحديات، فإن أي خطوة نحو تهدئة ولو مؤقتة، تُعد تقدمًا ملموسًا في ظرف إقليمي شديد التوتر.