في عالم تتشابك فيه المصالح وتتصارع فيه القوى العظمى، يبرز سؤال يتردد على أذهان الكثيرين: لماذا لا تحتلنا أمريكا رغم قدرتها العسكرية الهائلة ونفوذها الواسع؟ قد يبدو السؤال بسيطًا، لكن الإجابة أعقد بكثير مما نتصور، إذ أن مفهوم السيطرة نفسه لم يعد كما كان في العصور الماضية، حيث كانت الجيوش تتحرك لاحتلال الأراضي ونهب الموارد. اليوم تغيّرت الأدوات، وبرز ما يمكن وصفه بـ”الاحتلال الاقتصادي” كخيار مفضل يحقق النتائج ذاتها، وربما بفاعلية أكبر، ودون الحاجة لإراقة الدماء.
من الاحتلال العسكري إلى النفوذ الاقتصادي
إرث الإمبراطوريات القديمة
حتى منتصف القرن العشرين، كانت القوى الكبرى ترى في الاحتلال العسكري الوسيلة الطبيعية للسيطرة على موارد الدول الأخرى. من روما القديمة إلى الاستعمار الأوروبي الحديث، كان المنطق بسيطًا: إرسال الجيوش، إخضاع الشعوب، ونهب الثروات. لكن هذه السياسة تركت آثارًا مدمرة، وأدت في النهاية إلى مقاومات شرسة أنهكت الإمبراطوريات وأسقطتها.
تحوّل بعد الحرب العالمية الثانية
مع انتهاء الحرب العالمية الثانية وبروز الولايات المتحدة كقوة عظمى، بدأت واشنطن تعيد النظر في تكلفة الاحتلال العسكري. لماذا تُزهق أرواح الجنود وتُنفق مليارات الدولارات في حروب مفتوحة، بينما يمكن تحقيق الهدف نفسه بوسائل أكثر ذكاءً؟ هنا ظهر مفهوم السيطرة غير المباشرة، أو ما يسميه بعض الخبراء “الهيمنة الناعمة”، والتي تعتمد على الاقتصاد والسياسة بدلًا من الدبابات والطائرات.
آليات الاحتلال الاقتصادي
تنصيب حكام موالين
المرحلة الأولى من هذه الاستراتيجية تقوم على دعم وصول شخصيات موالية للمصالح الأمريكية إلى سدة الحكم. هؤلاء الحكام يتولون مهمة تسهيل استنزاف موارد بلدانهم مقابل بقاء أنظمتهم في السلطة. في المقابل، يحصلون على دعم مالي وعسكري وسياسي من واشنطن، بما يضمن قدرتهم على قمع المعارضة الداخلية.
استمالة القادة الجدد
لكن ماذا يحدث إذا وصل إلى الحكم زعيم ذو توجه وطني يرفض التبعية؟ هنا تنتقل الاستراتيجية إلى المرحلة الثانية: استمالته عبر وعود بالمساعدات أو عبر ضغوط سياسية واقتصادية. فإن استجاب، دخل تلقائيًا في منظومة الولاء. وإن رفض، تبدأ محاولات لإثارة احتجاجات داخلية أو اضطرابات تهدف لإسقاطه، كما حدث في أكثر من تجربة عالمية.
الانقلابات العسكرية
في حال فشل الحراك الشعبي أو الاحتجاجات، تلجأ الولايات المتحدة أحيانًا إلى دعم انقلابات يقودها ضباط موالون. الانقلابات في التاريخ الحديث غالبًا ما كانت مدعومة أو على الأقل مغضوضًا الطرف عنها من قوى خارجية تسعى لإعادة تشكيل المشهد السياسي بما يتناسب مع مصالحها.
الاغتيال كخيار مطروح
الاغتيال السياسي ظل حاضرًا كأداة قصوى في حالات استثنائية. حين يعجز النفوذ الاقتصادي والسياسي عن إزاحة قائد يشكل تهديدًا للمصالح الأمريكية، قد يُلجأ إلى التخلص منه جسديًا. الأمثلة عديدة على محاولات وعمليات اغتيال لقادة عُرفوا بمواقفهم المناهضة للسياسة الأمريكية.
الاحتلال العسكري كملاذ أخير
ورغم أن الغزو العسكري تراجع في سلم الأولويات، إلا أنه لم يُلغَ بالكامل. التدخل المباشر ما زال خيارًا مطروحًا حين تفشل جميع الأدوات الأخرى. لكن حتى في هذه الحالة، لا يستمر الاحتلال طويلًا، بل ينتهي غالبًا بتنصيب حكومة موالية تنقل عبء الإدارة إلى الداخل، فيما تكتفي أمريكا بالتحكم عن بعد.
لماذا لا تحتاج أمريكا لاحتلال مصر عسكريًا؟

موارد تحت السيطرة غير المباشرة
مصر، مثل كثير من دول المنطقة، ليست بحاجة لاحتلال عسكري كي تُدار مواردها أو توجه سياساتها. فالعلاقات الاقتصادية والاتفاقيات الدولية كافية لفتح الأبواب أمام الشركات العالمية والمؤسسات المالية. بمعنى آخر، ما تحتاجه واشنطن يمكنها الحصول عليه دون إطلاق رصاصة واحدة.
الموقع الجيوسياسي
أهمية مصر ليست فقط في مواردها، بل أيضًا في موقعها الاستراتيجي. التحكم في قناة السويس مثلًا يوازي السيطرة على شريان عالمي للتجارة. ومع ذلك، فإن ضمان استقرار النظام السياسي المصري وتعاونه مع الغرب يغني واشنطن عن فكرة الاحتلال المباشر.
تكلفة الحرب
أي غزو عسكري لمصر سيكلف الولايات المتحدة مليارات الدولارات ويعرضها لخسائر بشرية هائلة، فضلًا عن ردود فعل إقليمية ودولية قد تقلب المعادلة. في المقابل، التعاون السياسي والاقتصادي أقل تكلفة وأكثر استدامة.
أدوات الهيمنة الحديثة
المؤسسات المالية العالمية
البنك الدولي وصندوق النقد الدولي مثالان واضحان على آليات التحكم الحديثة. عبر القروض المشروطة، تلتزم الدول بسياسات اقتصادية قد لا تراعي مصالح شعوبها بقدر ما تخدم النظام الاقتصادي العالمي الذي تقوده القوى الكبرى.
الإعلام والدبلوماسية
وسائل الإعلام العالمية تلعب دورًا في تشكيل الرأي العام، فيما تعمل الدبلوماسية على رسم مسارات السياسة. وهكذا يصبح التأثير على العقول والقرارات أكثر أهمية من السيطرة على الأرض.
الشركات متعددة الجنسيات
وجود شركات أمريكية ضخمة في مجالات الطاقة، التكنولوجيا، والأمن يضمن تدفق الأرباح والسيطرة على مفاصل اقتصادية حساسة داخل الدول دون الحاجة لتدخل عسكري.
الدروس المستفادة
القوة اليوم لا تُقاس فقط بعدد الدبابات أو الطائرات، بل بقدرة الدولة على التأثير في اقتصاديات الآخرين وصياغة قراراتهم السيادية. وهذا ما يجعل سؤال “لماذا لا تحتلنا أمريكا؟” أشبه بسؤال عن الماضي أكثر منه عن الحاضر. فالاحتلال قائم بالفعل، لكن بثوب مختلف لا يثير الصخب ذاته، ولا يترك صورًا للجنود في الشوارع، بل يترسخ عبر صفقات وديون وعلاقات غير متكافئة.
خاتمة
إذن، أمريكا لا تحتلنا عسكريًا لأنها ببساطة لا تحتاج إلى ذلك. أدواتها الاقتصادية والسياسية كفيلة بتحقيق الهدف بأقل الخسائر وأطول النتائج مدىً. الاحتلال العسكري أصبح الملاذ الأخير، بينما الاقتصاد والسياسة هما ساحتا الصراع الحقيقية اليوم.
تابع اخر الاخبار حول العالم من هنا . لا تنسى الانضمام الى قناة التليجرام ليصلك كل جديد .