مع كل موسم امتحانات، يتكرر المشهد ذاته: قلق يملأ البيوت، وشكاوى تتصدر منصات التواصل الاجتماعي، والسبب دائمًا “امتحانات الثانوية العامة”. الكلمة المفتاحية هنا ليست مجرد وصف لمرحلة دراسية، بل عنوان لضغط نفسي ومجتمعي يعيشه الطلاب وأسرهم عامًا بعد عام.
امتحانات الثانوية العامة… بين الواقع والطموح
تمثل الثانوية العامة في العالم العربي، وبالأخص في بعض الدول مثل مصر، محطة مصيرية لا تحتمل الخطأ. ولعل هذا السبب الجوهري وراء الضجة التي تحيط بالامتحانات في كل عام. لكن، هل الشكاوى المتكررة تعني بالضرورة وجود خلل في وضع الامتحانات؟ أم أن المشكلة أعمق من ذلك؟
نظرة أقرب إلى معاناة الطلاب
يستعد الطلاب شهورًا طويلة لخوض الامتحانات، وغالبًا ما تكون هذه الاستعدادات مرهقة ومكثفة. ومع بداية أول اختبار، تظهر عبارات مثل “الامتحان كان صعبًا”، “الأسئلة غير مباشرة”، أو حتى “الوقت لم يكن كافيًا”، وكلها إشارات على وجود فجوة بين ما يتعلمه الطلاب فعليًا وبين ما يُطلب منهم في ورقة الأسئلة.
هل المشكلة في التحضير أم التقييم؟
البعض يرى أن المشكلة تبدأ من طريقة التحضير. فالاعتماد على الدروس الخصوصية، وتكرار الأسئلة المتوقعة، وتجاهل التفكير النقدي، كلها عوامل تجعل الطالب مستعدًا لنمط معين من الأسئلة، لكنه يصطدم بالواقع حين يواجه أسئلة تتطلب فهمًا عميقًا وتحليلًا، وليس مجرد حفظ واسترجاع.
في المقابل، هناك من يرى أن واضعي الامتحانات يتعمدون التعقيد، بهدف “فرز” الطلاب المتفوقين من غيرهم. ورغم أن هذا الهدف قد يبدو منطقيًا من الناحية الأكاديمية، إلا أن آثاره النفسية على الطلاب تجعلنا نتساءل: هل الغاية تبرر الوسيلة؟
كيف تُبنى ورقة الامتحان؟

من المفترض أن تراعي امتحانات الثانوية العامة مستويات متعددة من التفكير، بدءًا من التذكر والفهم، وصولًا إلى التحليل والتطبيق. لكن كثيرًا ما يُتهم واضعو الامتحانات بتجاوز هذه القواعد، ووضع أسئلة “خارج المنهج”، أو استخدام صياغات معقدة، تجعل الطالب في حالة من التشتت والارتباك.
الوزارة بدورها تدافع عن هذه الامتحانات، معتبرة أنها تقيس قدرات الطالب بدقة، وتساعد على تطوير التعليم. لكنها في الوقت ذاته تعلن نتائج تظهر تباينات واضحة في الأداء بين المحافظات والمدارس، وهو ما يفتح بابًا آخر للجدل.
تشدد أم تطوير؟
قد يرى البعض أن صعوبة الامتحانات ليست إلا محاولة لتطوير المنظومة التعليمية، ونقلها من الحفظ إلى الفهم، وهذا توجه عالمي. لكن المشكلة تكمن في التوقيت والطريقة. فلا يمكن أن نطلب من الطالب تغيير أسلوبه فجأة، في حين أن طرق التدريس، والمناهج، وحتى البنية التحتية، لم تتغير بالقدر الكافي.
دور المعلمين في المعادلة
المعلمون أيضًا ليسوا بمعزل عن دائرة الاتهام. فهل أعدوا طلابهم بما يتوافق مع طبيعة الامتحانات الجديدة؟ أم ظلوا يستخدمون أساليب تقليدية لا تلبي متطلبات التقييم الحديث؟ من هنا يظهر خلل آخر، يتمثل في غياب التنسيق الحقيقي بين واضعي المناهج، والمعلمين، والممتحنين.
هل من سبيل لتخفيف المعاناة؟
ربما يكون الحل في إعادة النظر جذريًا في فلسفة الثانوية العامة ذاتها. فبدلًا من أن تكون مجرد اختبار في نهاية العام يحدد مصير الطالب، يمكن اعتماد نظام تقييم تراكمي يعتمد على الإنجاز على مدار سنوات.
دور الأسرة والمجتمع
لا يجب أن نحمل الطلاب وحدهم عبء هذه المرحلة. فالمجتمع بكامله، بدءًا من الأسرة، يحتاج إلى تغيير نظرته إلى الثانوية العامة، والتوقف عن التعامل معها كـ”معركة مصيرية”. أما وسائل الإعلام، فعليها أن تبتعد عن التهويل، والتركيز بدلًا من ذلك على تقديم الدعم النفسي للطلاب.
مستقبل التعليم بعد الثانوية العامة

تظل الثانوية العامة بوابة لما بعدها، لكن لا يجب أن تكون كابوسًا يرافق الطلاب في نومهم ويقظتهم. يجب أن تتغير المنظومة لتراعي التحديات الجديدة، وتمنح الطلاب فرصًا متعددة لإثبات أنفسهم بعيدًا عن ضغوط الامتحان الواحد.
فالتعليم الحقيقي لا يُقاس فقط بدرجة على ورقة، بل بقدرة الطالب على مواجهة الحياة، ومهاراته في التفكير، والعمل الجماعي، والإبداع.
خاتمة: هل آن أوان التغيير؟
إذا كنا نسمع الشكوى ذاتها كل عام، وبالحدة نفسها، فإن الوقت قد حان لطرح سؤال جاد: هل الامتحانات الحالية فعالة؟ وهل تخدم مستقبل أبنائنا؟ الإجابة لا تحتاج إلى تبريرات مطولة، بل إلى إرادة حقيقية لإصلاح جذري يبدأ من القاعدة.
فالمطلوب اليوم ليس فقط تغيير الأسئلة، بل تغيير العقلية التي صاغت هذه المنظومة التعليمية منذ عقود، حتى نمنح أبناءنا حقهم في تعليم عادل، متوازن، ومناسب لعصرهم.
لمتابعة احدث الأخبار في التعليم اضعط هنا – تابعنا عبر فيسبوك لمتابعة احدث واخر الاخبار عبر صفحتنا في فسيبوك وباقي مواقع التواصل