في خضم سباق عالمي محموم على ريادة تقنيات الذكاء الاصطناعي، تشهد دول جنوب شرق آسيا تحوّلًا جذريًا تقوده شركات صغيرة تسعى لإثبات وجودها والبقاء وسط بيئة تنافسية متسارعة التغير. الكلمة المفتاحية “الذكاء الاصطناعي” تتصدر المشهد من جديد، ولكن هذه المرة من زاوية غير تقليدية: الشركات الناشئة في أسواق ناشئة.
حراك جديد بعيدًا عن مراكز القوة التقليدية
بينما تتركز الأنظار عادةً على التطورات في وادي السيليكون والعملاق الصيني، هناك مشهد موازٍ يتشكّل في هدوء بمدن مثل كوالالمبور ومانيلا وجاكرتا. شركات صغيرة تتحرك بثقة لتوظيف الذكاء الاصطناعي بطرق مبتكرة، مدفوعة بالحاجة وليس بالترف.
في هذا السياق، لم يعد الاعتماد على الذكاء الاصطناعي ترفًا أو خيارًا مؤجلًا، بل أصبح شرطًا أساسيًا للاستمرار والنمو. فالشركات التي لا تواكب التحولات الرقمية تجد نفسها خارج السباق بسرعة، وهو ما يدفع هذه الكيانات الصغيرة إلى الاستثمار في التقنية رغم التحديات.
الشباب في المقدمة: وقود التحول الرقمي
تُعد الفئة الشابة المحرك الرئيسي لهذه الثورة التقنية في جنوب شرق آسيا. فأغلب قادة الشركات الناشئة في دول مثل فيتنام والفلبين وماليزيا ينتمون إلى الجيل الرقمي، وهم أكثر استعدادًا لتبني الأدوات التكنولوجية الحديثة والانفتاح على أفكار غير تقليدية.
هذا الوعي التقني الشاب ينعكس على ديناميكية اتخاذ القرار، حيث يتم اختبار الأدوات الذكية بسرعة، وقياس أثرها في الزمن الحقيقي، ومن ثم تعميمها أو تعديلها حسب الحاجة.
الذكاء الاصطناعي التوليدي: من دعم العملاء إلى المحتوى

تتنوّع استخدامات الذكاء الاصطناعي في هذه الشركات، ولكن الأكثر بروزًا هو الذكاء الاصطناعي التوليدي (Generative AI)، الذي وجد طريقه إلى خدمة العملاء، التسويق الرقمي، وإنشاء المحتوى. فهو يقدّم حلولًا فعالة من حيث التكلفة والسرعة، خصوصًا في بيئات متعددة اللغات كما هو الحال في دول جنوب شرق آسيا.
من خلال أدوات الترجمة الآلية، أصبح بإمكان الشركات الصغيرة إيصال رسائلها التسويقية إلى جماهير متنوعة خلال دقائق، وهو ما كان يتطلب سابقًا فرق عمل كاملة وميزانيات ضخمة.
نماذج ملهمة: قصص نجاح واقعية
عدد من المنصات الرقمية في المنطقة قدّمت نماذج ملهمة في هذا السياق. على سبيل المثال، إحدى منصات الألعاب الاجتماعية في إندونيسيا استطاعت أن تضاعف حجم التفاعل الأسبوعي عبر تبني أدوات الذكاء الاصطناعي في تنظيم الفعاليات، بالإضافة إلى تحقيق زيادة لافتة في الإيرادات من خلال تحسين تجربة المستخدم وخدمة العملاء.
التكنولوجيا هنا لم تحلّ محل الإنسان فحسب، بل أضافت له قيمة من حيث السرعة والدقة وسعة الوصول، ونجحت في تهيئة بيئة تفاعلية جديدة تخدم الطرفين: الشركة والمستخدم.
تسوّق ذكي عبر البث المباشر
واحدة من الظواهر اللافتة التي تتبلور في الأسواق الناشئة هي استخدام الذكاء الاصطناعي في تقديم بث مباشر تفاعلي للترويج للمنتجات، دون الحاجة إلى مقدّمي عروض بشريين. تقنية كهذه، بقدرتها على تقليص التكاليف إلى أقل من دولار للدقيقة، فتحت المجال أمام آلاف المتاجر الصغيرة لاختراق سوق البث المباشر، الذي بات يمثل وسيلة بيع فعالة جدًا في المنطقة.
الحواجز المالية ما زالت قائمة
رغم النجاحات المتعددة، إلا أن التحدي الأكبر لا يزال يتمثل في التكلفة. فالاعتماد على أدوات الذكاء الاصطناعي المتقدمة، خصوصًا تلك المرتبطة بواجهات برمجة التطبيقات العالمية، يتطلب استثمارات مستمرة. بعض الشركات الصغيرة تصرف مبالغ تتجاوز الألفي دولار شهريًا فقط لضمان استمرار التشغيل الذكي.
وبينما تسعى الحكومات لدعم هذه الشركات تقنيًا، إلا أن فجوة التمويل ما زالت تشكل عائقًا أمام تعميم الاستفادة من الذكاء الاصطناعي على نطاق واسع، خاصة في قطاعات مثل الأغذية والأزياء، التي تفتقر إلى خبرات تقنية داخلية.
مرونة رقمية تقود إلى المستقبل
مع كل تلك المعوقات، لا يبدو أن الحلم يتراجع. فالرغبة في البقاء والاستمرار في السوق تُشكّل دافعًا قويًا للابتكار، مدعومة بتوافر أدوات منخفضة التكلفة نسبيًا، ومنصات تعليمية مفتوحة، وبيئة رقمية مرنة.
التحول الرقمي في جنوب شرق آسيا لم يعد فكرة طموحة، بل واقع يومي تعيشه الشركات الصغيرة، من خلال تبني حلول مرنة، وبرمجيات قائمة على السحابة، وروبوتات دردشة تنفذ المهام بكفاءة غير مسبوقة.
المشهد القادم: ما بعد البقاء
السؤال الذي يطرح نفسه الآن: هل تكتفي هذه الشركات الصغيرة بتقنيات الذكاء الاصطناعي كوسيلة للبقاء فقط؟ أم أنها ستتمكن من قيادة موجات جديدة من الابتكار والنمو؟
الجواب لا يزال قيد التشكل، لكن المؤشرات واضحة: الذكاء الاصطناعي بات سلاحًا استراتيجيًا بأيدي اللاعبين الصغار. وإذا استمر هذا الزخم، فقد نشهد في المستقبل القريب بروز شركات آسيوية جديدة تنافس الكيانات العالمية الكبرى ليس فقط في التقنية، بل في الرؤية والأسلوب.